5‏/4‏/2012

قرار





ما هذا الذي ينتابني؟ إنني لم أكن أبدا مثل هذا ال.. ال.. الضعف، نعم لم أخاف أن أنطقها؟ هل لأني رجل؟ ولقد نشأنا على أن الضعف يتنافى تماما مع صفة الرجولة؟ قد يعتقد البعض هذا و لكنه لا يتنافى مع كوني آدميا أشعر.. أحس.. أتألم.. تنتابني لحظات قوة و كذلك لحظات ضعف. تبا لكل ما نشأنا عليه من أفكار سخيفة هدامة لا معنى لها ولا توجد لها أسس بنيت عليها و لا أهداف مرجوة منها. إن مشكلتي الحقيقية تتمثل في هذه المعتقدات و ليس في شعوري بالضعف، ما يضعني في هذا الموقف ليس تمردي على هذه المعتقدات و الأفكار بل على العكس لأنني أتمسك بها و بشدة.

بدأت قصتي عندما تعرفت عليها ، كانت حديثة التعيين في الشركة التي أعمل بها، كنا في قسمين مختلفين و لكن صغر حجم الشركة أتاح لي أن أتعرف عليها و أتحدث معها في بعض الأوقات. أثارت إعجابي بشدة فهي ملتزمة هادئة الطبع جادة في عملها و لكنها صاحبة روح مرحة جذابة، جمالها هادئ، أهم ما يميزها ابتسامة رقيقة لم تغب قط عن شفتيها.

كانت بالنسبة لي نموذج مثالي لمن أريدها شريكة لحياتي و نظرا لطبيعتي العملية لم أضع الوقت و فاتحتها مباشرة و لكن لأنني لم أتعرف عليها إلا منذ فترة وجيزة و لأنني أعرف أنها ذات شخصية خجولة إلى حد ما فلم أصارحها وجها لوجه و بدلا من هذا كتبت لها خطاب أبدي فيه إعجابي بها و رغبتي في أن أزور منزلهم لأتعرف بأهلها و أطلب يدها و طلبت منها أن ترد علي في اليوم التالي بنفس الطريقة على ظهر الورقة التي كتبت بها خطابي.

عندما سلمتها خطابي شعرت و كأنني تلميذ يسلم ورقة إجابته في امتحان ما و ينتظر النتيجة بفارغ الصبر. و ظللت على حالي هذا حتى اليوم التالي و مع بدء اليوم كان قلقي يتزايد كلما مر الوقت ولم تصلني إجابتها. لقد رأيتها بالفعل في أول اليوم أثناء توقيع دفتر الحضور إلا أنها لم تزد عن أنها ألقت على تحية الصباح بابتسامتها المعتادة و بصوتها الرقيق. كان هذا ما يحدث عندما أراها كل صباح ولم يختلف هذا الصباح عن سابقيه مما أرقني فرددت تحيتها باقتضاب و وجوم و ذهبت إلى مكتبي و ظللت طوال اليوم أتساءل عن سبب تأخرها في الرد علي و ما سيكون عليه هذا الرد، إن لقائي بها صباحا لم يعطني أي انطباع معين.

و هكذا أخذت الحيرة تعصف بي حتى نهاية اليوم و عند الانصراف رأيتها و هي تشير إلي باسمة أنها تريد التحدث معي. ذهبت إليها بسرعة فأعطتني خطابي دون أي تعليق ثم ألقت علي تحية الوداع. لم أدر لم لم أرد عليها ولم وقفت متسمرا في مكاني أحدق في الخطاب و كأنني شخص أبله أو كأنني لا أصدق أنها أعارتني انتباهها و ردت على خطابي. وضعت الخطاب في جيبي و كنت أتحسسه طوال الوقت من حين لآخر أثناء عودتي إلى المنزل و كأنني أخشى نتيجة الامتحان و أخاف من مواجهة ردها و ظللت على حالتي هذه حتى وصلت المنزل وهنا لم أطق صبرا أن انتظر لثانية واحدة حتى أنني نسيت أن ألقي التحية على والدتي و لم أهتم بالطعام الذي وضعته على المائدة خصيصا لي و دخلت غرفتي و أغلقت على بابي و فتحت الخطاب و أخذت ألتهم كلماته في سرعة. بعد أن انتهيت خيل لي أنني لم أفهم ما كتبت أو لا أصدقه فأخذت أعيد قراءته في تمهل فلم يكن يزيد عن جملتين فحسب هما: أهلا و سهلا بك، أبي ينتظرك يوم الجمعة القادم الساعة الثامنة مساءا.

لقد كان ردها مفاجئا ليس فقط لأنها وافقت ولكن لأنها أجابت في بساطة وفي كلمات محدودة ولأنها أبلغت والدها بهذه السرعة وقد وافق هذا الأب الكريم على مقابلتي بصدر رحب. أفقت في هذه اللحظة من تساؤلاتي وأمي تناديني: هشام ماذا دهاك؟ لم أنت على عجلة من أمرك؟ لم تلق علي السلام و لم تتناول طعامك، هل هناك ما أخشاه؟

انتفضت في سرعة و قمت احتضن أمي و أنهال عليها بالقبل على وجنتيها و كفيها و أنا أهتف: كم أنت جميلة يا أمي، كم أنت رائعة، إني أحبك بشدة بل أحب الكون كله.
دهشت أمي لسعادتي الشديدة التي لا تعرف لها سببا فسألتني: ماذا هناك؟ هل تمت ترقيتك؟ أم أنك أصبحت الفتى الأول في أحد الأفلام؟
ضحكت لمداعبتها و أجبتها: نعم، سأصبح الفتى الأول و لكن ليس في الأفلام ولكن في حياة ريم. رفعت أمي حاجبيها في دهشة و هي تسألني: من ريم يا هشام؟

تنبهت أنني وسط قلقي و حيرتي لم أخبر أمي بمن هي ريم و ما عرضته عليها ، فأخذت أسرد لها ما كان و ما إن انتهيت حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة حنون و ربتت على كتفي قائلة: مادام الأمر كذلك فمبارك بإذن الله. تضاعفت سعادتي بموافقة أمي على ارتباطي بريم. و أخذت أترقب الساعات و الأيام حتى ألتقي بوالد ريم و حتى جاء يوم الجمعة. لم أتحدث مع ريم في أي شيء و هي أيضا لم تفاتحني بخصوص ارتباطنا و كأنها عبرت عن كل ما تريد بكلماتها المقتضبة في خطابها لي.

وما أن جاء يوم الجمعة حتى بدأت أجهز نفسي للقاء المساء، ما سأرتدي و ما يجب أن أقوله و ما لا يجب أ، أقوله و كيف سأتصرف و ظللت أعد كلماتي لوالدها حتى وجدت نفسي أمام باب شقتهم في الثامنة إلا بضع دقائق. أخذت أتلكأ بعض الشيء قبل أن أدق جرس الباب و في النهاية قررت أن أدق الباب و أطل من وراءه وجه هادئ يفيض بالطيبة و البشاشة وفيه شبه كبير من وجه ريم، إلا أن صاحبة الوجه البشوش كان يبدو عليها أ،ها في أواخر العقد الخامس من العمر، ما أن رأتني حتى قالت: أهلا و سهلا، أستاذ هشام أليس كذلك؟
رددت عليها بصوت منخفض: نعم أنا هشام، إن لدي موعد مع الأستاذ ..
فتحت الباب و رحبت بي وهي تطلب مني الجلوس حتى تنادي زوجها عندها تأكدت أنها والدة ريم. جاء والد ريم و رحب بي و احتسينا القهوة معا ثم فاتحته في أنني أريد أ، ارتبط بابنته و شرحت له ظروفي الاجتماعية و إمكانياتي المادية، وجدت منه قبولا لكنه طلب أن يسأل ريم عن رأيها أولا. لم أعلق فلقد كان طلبه تقليديا و كان المتوقع أ، يذهب إليها و يعود بموافقتها و يصافحني قارئا الفاتحة و تنطلق زغاريد والدتها، تلك هي الصورة التي رسمتها في خيالي و التي اعتدت حدوثها في إطار عائلتي، لكني وجدته بدلا من أن يذهب إليها يناديها لتجلس معنا و ما أن أتت و شاركتنا مجلسنا حتى أطلعها على سبب زيارتي و كأنه لا علم لها بهو سألها رأيها.

وجدتها تستدير في جلستها و تواجهني قائلة: أستاذ هشام إن مطلبك لا يعني إلا أنك قد قررت أن تختارني كشريكة لحياتك، فإن وافقت كان قراري متفقا مع قرارك، و إن رفضت كان هذا بمثابة قرار بأنك لست من أرغب فيه ليشاركني حياتي . أنا لا أعلم عنك ما يكفي لأعلن قبولي، كذلك لا أرى داعي للرفض دون أن أعرفك جيدا. وقبل أن أتعرف عليك بالشكل الكافي لذلك أريدك أن تعرف بعض طلباتي و لا أقصد بذلك فرض شروطي أو ما شابه لكنها ببساطة أمور أعتبرها حيوية لأتخذ قراري بشكل سليم.
أولا: عليك أن تعرف أن عملي هو ذات و أنا لا أقبل أ، أتخلى عنه حاليا أو في المستقبل إلا إذا رأيت أنا أن هذا الإجراء ضروري، و ساعتها سيكون قراري الشخصي دون أي تدخل من أي شخص حتى لو كان هذا الشخص هو أنت.
ثانيا: بيتي هو مملكتي، لا أقبل أن يتدخل أي شخص من طرفي أو من طرف من سأرتبط به في مسار حياتي أو كيفية تسيير الأمور في هذه المملكة.
ثالثا: لا يهمني إن كنت الأولى في حياة من أرتبط به أو الثانية، لكن يهمني بشكل قاطع أن أكون الأخيرة و إن شككت في لحظة بأنني غير ذلك سأنهي هذا الارتباط أيا كان الشكل الذي اتخذه، أي حتى لو تم الزواج بيننا.
أخيرا: يهمني أن أبني حياتي مع شريكي على أساس من الصراحة و الثقة و تبادل الآراء، فاستقلال أحد الطرفين بأولوية اتخاذ القرار تفقد الحياة الزوجية معنى المشاركة بين هذين الطرفين.

كانت تتحدث بثقة و ثبات جعلاني أفقد كل ما رتبته في عقلي من أفكار على الرغم من ابتسامتها التي عهدتها على وجهها و التي لم تفارقها طيلة حديثها إلى. إلا أنني تبعا لما نشأت عليه شعرت ببعض الضيق فليس من المستساغ في عائلتي و بيئتي أن تكون المرأة ذات شخصية قوية واضحة و رأي مسموع و دور واضح في اتخاذ القرار. لقد نشأت على أن القرار مرادف للرجال، قد يستشير زوجته فيه لكنه ليس إلزاميا عليه أن ينفذ رأيها حتى و إن كان هو الصواب.

كل هذه الأفكار و غيرها دارت في رأسي بمجرد أ، انتهت ريم من سرد طلباتها أو شروطها لذلك ارتسمت على وجهي مزيج من ملامح الضيق و الدهشة و الحيرة.

لاحظت هي ما أعانيه فنجدتني و قالت: أنا لا أطلب منك الموافقة على طلباتي الآن، و حتى لو وافقت الآن فهذا لا يعني أنني قد وافقت على الارتباط بك و إنما يعني أنني على استعداد لأن أتعرف عليك بشكل أفضل و عندها قد أوافق أو أرفض.

وجدت في ردها نهاية الموقف، على الأقل ساعتها. مكثت قليلا ثم انصرفت و راسي يضج بما يعتمل بداخله من أفكار و عندما رأتني أمي رددت عليها بشكل مقتضب و ذهبت لأنام حتى دون أ، أتناول عشائي.

إنني على هذه الحالة منذ يومين، لم أذهب إلى عملي، إنها أول إجازة أقوم بها في حياتي دون أن أكون مريضا. لكن هيهات أن تصبح علة النفس أقل وطأة من علة الجسد، بل هي أشد و أقسى. خلال هذين اليومين لم أشعر بشيء أو يدر بخلدي أي شي سوى كلمات ريم و ردي الذي تنتظره. بعد أن تخلصت من مفاجئة كلماتها لي أخذت أدرس تلك الكلمات بموضوعية شديدة دون أن أتحيز لعادات و طباع مجتمعنا أو أحاول ادعاء كوني إنسانا متحررا ديمقراطيا.

إن هذا الصراع بين ما اعتدت عليه و بين العقل و المنطق هو ما يصيبني بالضعف. في النهاية كان لابد من حسم موقفي. إني لا أجد ما يضيرني من أن أوافق على طلباتها، فهي وإن كانت ذات شخصية قوية فإنها لا تنكر أهمية كونها زوجة و أما في المستقبل و تقبل أن تضحي بعملها في سبيل هذا الدور لقناعتها بسموه. كما أنها تطلب الصراحة و الثقة و الإخلاص و هي أمور أنا واثق من أني سأتبعها حتى و إن لم تطلب هي ذلك. كما أنها مثقفة و ذات عقل متفتح و النقاش معها في اتخاذ أي قرار سيكون نقاشا بناءا سيؤثر بالإيجاب على حياتنا. فلم القلق إذا؟

استجمعت شجاعتي وذهبت اليوم إلى عملي وما من هدف لدي إلا أن أخبر ريم بقراري الذي استنفذ كل ذرة في كياني لاتخذه. بمجرد وصولي أخبرتها بموافقتي، و كم فوجئت بها تخبرني أنها أيضا موافقة نهائيا على الارتباط بي دون أن تعرفني أكثر فما عرفته عني يكفيها لتشعر أنها ستكون أكثر النساء حظا عندما تكون زوجتي. لم أصدق نفسي و غمرتني سعادة لا توصف.

إن هي إلا أسابيع قليلة حتى تم زفافنا و بدأنا معا حياة تفيض حبا و احتراما متبادلا و تقديرا كاملا من كل مننا لشخصية الآخر دون أن أذكر ما نشئت عليه من تفرد و تعنت لا مبرر لهما إلا رجولتي و دون أن تؤثر شخصية ريم القوية على دورها كزوجة و أم بل جعلتها في غاية النجاح.

0 التعليقات: